الثلاثاء، 14 يوليو 2015

خرِّيج آداب إنجليزي

خرِّيج آداب إنجليزي

جاءتني فكرة هذه الخواطر منذ عام. وكان سببها استيائي من تفكير طالبتين لديّ، سمر سيد وميرنا عمرو، بخصوص كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية تحديدًا. وبسببهما أردت كتابة هذه الخواطر، واحتفظتُ بالفكرة في رأسي لمدة عام، كي أكتبها وأنشرها بالتوازي مع إعلان نتايج امتحانات الثانوية العامة واستعداد جميع الطلاب لتقديم أوراقهم لدخول الجامعات. وسأكتب معظم الكلام بالفصحى مع بعض العامية، أو بالعامية مع بعض الفصحى، وذلك تسهيلًا على الجميع، أو حسب ما يتأتَّى الكلام لي. وسأناقش هذه النقاط:
ü   اختيار أنسب كلية
ü   عن كلية الآداب
ü   خريج آداب إنجليزي
ربما يقول القارئ إنه من الأفضل تقسيم هذه الخواطر إلى ثلاث مقالات، كي تصبح أقصر وأسرع في القراءة، ولكني رأيت أنه من الأفضل جمع كل الأفكار في مكان واحد تسهيلًا على الطلبة، ولأن الذي يريد أن يقرأ سيقرأ وإن كانت أطول من هذا. وسأكتب الكثير من الأمور الشخصية كأمثلة توضيحية لمن يعرفونني حتى أثبت صحة كلامي.

اختيار أنسب كلية
باختصار، إليك بعض النصايح ممن هو أكبر منك سنًا بقليل:
1-                        بلاش تختار الكلية على أساس الاستخسار! ما تقولش: «أنا جبت 98% فعايز أدخل طب (أو هندسة أو أيا كانت الكلية) عشان حرام أضيع الدرجات اللي جبتها في المجموع دي». ده ما اسموش كلام يا راجل! ادخل اللي انت عايزه عشان تبقى متميز فيه، مش عشان المجموع.
عندنا في كليتنا، آداب انجليزي عين شمس، دكاترة كانوا م الأوائل ع الجمهورية! متخيل إن حد يطلع الرابع أو الخامس ع الجمهورية ويقرر يدخل كلية الآداب؟ دلوقتي لو حد فكر يعملها ح يلاقي المجتمع كله بيقول عليه مجنون، ومش بعيد أهله يرموه برّة البيت! لكن اللي عملوها من سنين طويلة بقوا دكاترة «متميزين» جدًا في الكلية، عشان هم قرروا يدخلوا اللي هم بيحبوه وعايزين يتفوقوا فيه، مش اللي «الناس» شايفاه مناسب أو اللي مجموعُه يدخلهوله!
2-                        لا مؤاخذة، سيبك من بابا عايز وماما عايزة. إنتي ح تدخلي كلية تقعدي فيها أربع سنين (وفي كليات تانية خمسة) وهم مش ح يبقوا معاكي. إنتي اللي ح تتخرجي وتشتغلي وهم مش ح يبقوا معاكي. إنتي اللي ح تتجوزي وتسيبي البيت وهم مش معاكي. فمعلش يعني مافيش حاجة اسمها «بابا عايزني أدخل الكلية دي»! ابقي خليه هو يقدم فيها تعليم مفتوح، ويدرِس هو وياخد الشهادة!
3-                        كل إنسان مننا ليه طابع وشخصية مختلفة عن التاني، وفيه شخصيات يناسبها شغل معين ما يناسبش شخصيات تانية. الكلام ده كلام علمي مش كلام تخاريف. فيه نظرية بتقول إن البشر عبارة عن 16 نوع من الشخصيات، منها اللي بيعتمد على تفكيره أكتر من مشاعره، ومنها الانطوائي (اللي طاقته بتخلص من التفاعل مع الناس وبيحتاج ينعزل فترة عشان يشحن) والاجتماعي (اللي بيشحن طاقته م الاختلاط والتفاعل مع الناس) إلخ. لما تعمل الاختبار ده، ح يقول لك إيه أنسب وظايف ليك، وده بيبقى فعلًا صح. أنا مثلا عملت الاختبار ده مؤخرًا وطلعت من أنسب الوظايف لشخصيتي التدريس! اكتشفت أنا ليه لما سبت التدريس ورحت اشتغلت في شركة على كمبيوتر ما استحملتش ورجعت تاني للتدريس! والله فاكر إني قلت للمدير هناك: «فين العيال؟ وفين الزعيق والمناهدة والشرح والحاجات دى؟». وصاحبي الانطوائي ما كانش ينفعه التدريس، وطول عمري باتحايل عليه ييجي يشتغل معايا وما كنتش فاهم ليه رافض، أتاري مواجهة الجمهور (في الفصل أو قاعة التدريس) مشكلة للنوع ده من الشخصيات. دلوقتي لو عملت الاختبار ده ممكن يساعدك تختار كليتك، لأنه ح يعرفك إنت بتفكر إزاي وبتحب إيه وإيه المناسب ليك، فممكن ع الأساس ده تختار الكلية اللي تأهلك للوظيفة دي. يا ريت نعمل الاختبار بعد ما نكمل قراية للآخر يا جماعة، ماشي؟ *بصوت حزلقوم*
ده بالانجليزي
وده بالعربي
وممكن لما تطلع لك نتيجة شخصيتك، تدخل عليها ع الموقع ده وتشوف الفيديو بتاعها، ح يقول لك باختصار (أسرع من قراية كل التفاصيل في الموقع بتاع الاختبار) أفضل الوظايف ليك
4-                        لما تحب تسأل عن كلية معينة، ما تعتمدش على صاحب واحد أو اتنين. اسأل معيدين ودكاترة؛ اسأل خريجين؛ اسأل أصحاب كتير، عشان تقدر تكون فكرة صح عن الكلية دى.
5-                        مافيش حاجة اسمها أنا داخلة الـ AUC. عمرك سمعتي واحدة بتقول لك: أنا ناوية أدخل «عين شمس»؟ ح تسألي بتلقائية: «أيوة كلية إيه يعني؟» يبقى الطبيعي إنك تقولي الكلية.
الدرس المستفاد: بلاش أنعرة وخلاص، يعني منظرة! مش بندخل جامعات عشان نتمنظر بالاسم بتاعها؛ أنا في الإم آي يو والبي يو إي والتو تو تو!
6-                        انتشرت في الفترة الأخيرة مقولة «كلنا عارفين إن ماحدش بيشتغل بالشهادة بتاعته، فمش لازم تزعل ع الدرجات والكلية. ادخل أي كلية وخد كورسات واوصل للي انت عايزه بمجهودك». أنا عارف إن ده للأسف صح شوية، بس عندي اقتراح يعني: فيها إيه لما تدخل كلية إنت بتحبها وتشتغل بالشهادة بتاعتك؟ يعني أنا واحد باحب الرسم جدًا وطول ما انا قاعد بافضل ارسم وتطلع اللوحات حلوة، ليه ما ادخلش كلية فنون جميلة مثلا أو تربية فنية؟ واهو أبقى اشتغلت باللي درسته وباحبه.
حد ح يسألني: وهو اللي اتخرج منها ح يشتغل إيه يعني؟ أقول له: لو بيحب الحاجة قوي فعلًا ممكن يتفوق ويبقى معيد في الكلية دي، أو ممكن يشتغل شغل له علاقة بالفن ده، حتى لو يدي كورسات رسم.
حد ح يقول لي: وهو ده ح يجيب فلوس؟ أقول: آه، يبقى حضرتك بتدور على شغل مش على كلية تدرس فيها عشان «تتعلم» وتبقى بتشتغل حاجة بتحبها. ممكن نخلي مكتب التنسيق بقى يفتح مكتب توظيف بالمرّة!
حد ح يقول لي: بابا مش موافق أدخل الكلية دي وبيقول لي أدخل كلية ليها شهادة عليها القيمة وبعدين أكمل كورسات بعيد عن الكلية. أقول لها: هو ده اللي مخلي البلد والتنسيق حالهم صعب كده! الناس بتدخل كليات عشان «الشهادات» مش عشان «تتعلم» حاجة فعلًا تضيف ليها. والله لو باباكي مُصِرّ بقى ع الكليات إياها، اطلعي للنقطة رقم اتنين وشوفي ردي!

نعود إلى ميرنا وسمر. كان الكلام بيني وبين كل منهما وحدها يدور في فكرة «أنا شاطرة في الإنجليزي، يبقى أدخل كلية تانية وخلاص وابقى اقرا أو آخد كورسات انجليزي لو احتجت، ولو اني شاطرة ومش ح احتاج». كانتا تعتقدان أن دراسة «اللغة الإنجليزية وآدابها» في أية كلية، سواء الآداب أو الألسن، مجرد دراسة «لغة» وهو ما كانتا متفوقتين فيه. وبعد أن دخلتا كلية الألسن (قسم إنجليزي!) قالتا لي إن الدراسة «صعبة» وغير ما كانت كل منهما تتوقع على الإطلاق، وهو ما كنت أحاول قوله أثناء النقاشات التي حدثت بيني وبينهما (كل بمفردها) أيام التنسيق. ورغم أنهما دخلتا كلية «قمة» من وجهة نظر المجتمع الذي نعيش فيه، إلا أنني أُفَضِّل كلية الآداب عليها مائة مرة، ومن هنا نبدأ الحديث عن الكلية بشكل عام، ثم قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بشكل خاص.

عن كلية الآداب
ينظر معظم الناس إلى كلية الآداب باعتبارها كلية «اللي مش جايبين مجموع» أو «اللي مش عايزين يذاكروا»، وهو خطأ كبير وصورة مغلوطة، ربما نأخذ سنوات عِدَّة كي نغيرها (إن استطعنا أو عشنا). هذه الكلية يا سادة مصنع الثقافة ومنبت التفكير النقدي الحر؛ هذه الكلية أخرجت المفكرين والأدباء والكتاب ومن يُفتَرَض بهم قيادة المجتمع؛ وهذه الكلية تُغيِّر الطالب بها إلى الأفضل بشكلٍ لا يوصف، شريطة أن يريد هو ذلك ويساعد عليه. لا أقول ذلك مبالغةً مِنِّي أو لأنني منها، بل هو الواقع الذي اكتشفته بعد تخرجي بسنوات.
إن أردت أن تدرس التاريخ أو الأدب أو اللغة أو الفن أو المسرح أو الإعلام فانضم إلى كلية الآداب، فبها من الأقسام المتنوعة ما يلبّي طموحاتك ويثري عقلك في شتى المجالات. إعلان حلو، مش كده؟ لكن هذه هي الحقيقة التي ربما لن يصدقها إلا من عاشها، مثلي.
كنت أقول لإحدى الطالبات بالمدرسة منذ يومين إن هناك فرق بين حُبِّ الشيء وهوايته وبين دراسته. هي تحب الموسيقى وتنوي دراسة الهندسة، وقالت إن بإمكانها أخذ «كورسات» في الموسيقى لاحقًا. قلت لها: «بنات قالوا لي السنة اللي فاتت نفس الفكرة دي عن دراسة الإنجليزي، فقلت لهم لأ طبعًا. لما بتدرسي حاجة بتلاقيها ‘علم’ مش مجرد فن أو حاجة سهلة. يعني الناس كانت فاكرانا بنقرا روايات ومسرحيات وخلاص كده الموضوع سهل، لكن احنا بندرس تاريخ أدب ومدارس أدبية ونقدية، وسياسة وعلم نفس وفلسفة...» ابتسمت، فأكملتُ «تخيلي أنا أصلا كنت علمي علوم وما درستش لا فلسفة ولا علم نفس، وبعدين درستهم بالانجليزي! مش سهل خالص. أنا دلوقتي يا منار باذاكر اليومين دول للماجستير وانا مستمتع!». وللحق أقول، المدارس النقدية تجعلك تقرأ كل شيء بشكلٍ جديدٍ ومختلف. ردَّتْ: «عشان انت دخلت حاجة بتحبها! وانا باحب الهندسة!». قلت لها إن دراسة الموسيقى في الكلية ستجعلها ترى عالَمًا جديدًا عليها، ولن ترى الموسيقى مجرد هواية أو شيئًا يمكن تحصيله لاحقًا.
هناك القليل جدًا ممن استطاع الجمع بين دراسة عِلمية عَمَلية (كالطب) ومعرفة الكثير عن الأدب والنقد، مثل الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي أراه مُلِمًّا بالكثير عن المدارس النقدية وتاريخ الأدب. أعرف أنه مهما أوتيتُ من علمٍ فلن أضاهيه في الطب، وكذلك هو، مهما أوتيَ من علمٍ فلن يكون متخصصًا مثلي في الأدب والنقد. ولذا، فإن لم تستطع الجمع بين ... دعني أقول نقيضين، فالأولى أن تختار اختيارًا صحيحًا.
لماذا أحاول اجتذاب الطلبة ليدخلوا كليات ليست «هندسة» أو «طب» أو «صيدلة»؟ الرد يأتي في هذه المواقف:
تسأل طنط سهير مريم: دخلتي إيه؟ فتجيب مريم: هندسة. «ما شاء الله»، تجيب طنط سهير.
تسأل طنط سهير مريم: دخلتي إيه؟ فتجيب مريم: طِبّ. «ما شاء الله»، تجيب طنط سهير.
تسأل طنط سهير مريم: دخلتي إيه؟ فتجيب مريم: آداب. «معلش»، تجيب طنط سهير، وربما تقول في سرها «يا عيني».
وكذلك الآباء (الذين يحتاجون إلى تغيير نظرتهم إلى المنظومة التعليمية ككل أكثر من الطلبة أنفسهم) يتفاخرون بدخول أبنائهم وبناتهم كليات الصيدلة والهندسة والطب ولا يتفاخرون بالآداب والحقوق والتجارة. لماذا؟ كلنا نعرف الإجابة، فلا داعي لهذا النقاش.

خريج آداب إنجليزي
أنا أحب الأدب؟ لأني خريج آداب إنجليزي.
أكتب بعربية فصحى سليمة؟ لأني خريج آداب إنجليزي!
أحب الشعر العربي والمسرح والفنون؟ أقدّر الجمال والإبداع والتميز؟ لأني خريج آداب إنجليزي.
غيَّرتني. جعلتني أفضل. أصبحتُ شخصًا مختلفًا. صرتُ أكثر تَقَبُّلًا للآخر. أرَتني العالمَ مِن زاويةٍ أوسع. ومكنتني من التمييز بين الرَّثِّ والثمين.
لو لاحظ أحد الفقرة السابقة، لوجد أنها مكتوبة بشكل فني بسيط. الجملة الأولى كلمة واحدة، والثانية كلمتان، وهكذا إلى نهايتها. وهذا باختصار أحد فوائد الدراسة بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب. تبدع فتخرج أفضل ما لديك. لا عجب إذن أن يتخرج كثير من المبدعين من قسمنا: عمار الشريعي ومصطفى سعيد ويوسف الشريعي (موسيقى) وسلمى حدّاد (غناء). ربما تتساءلين: ما علاقة دراسة الآداب الإنجليزية بالموسيقى أو الإبداع بشكل عام؟
لازم تبقي عارفة إن احنا مش بندرس أدب انجليزي بس. احنا بندرس أدب انجليزي وأمريكي وأحيانًا أيرلندي؛ يعني تقدري تقولي آداب عالمية باللغة الإنجليزية. وكمان بندرس عربي وفرنساوي أو ألماني، ولاتيني، وتاريخ اللغة وتطورها، ونظريات نقدية، وحضارة (ثقافة العصور المختلفة في أوروبا ومفكريها وكُتَّابها)...إلخ. كل ده بيخليكي عندك حاجة اسمها «تذوق أدبي» أو «تذوق فني»؛ بتبتدي تدوقي الجمال في الحياة حواليكي. وده ح يفيدك بإيه؟ ح يفيدك جامد.. ح تبتدي تعرفي جمال الكلام وازاي تلعبي بيه، وازاي تحللي جملة واحد بيتكلم قدامك وتعرفي إذا كان بيكذب والا لأ، وتقدري تفهمي الأفلام والنهايات المفتوحة وتحللي الشخصيات، إلخ.
لا عجب إذن أن نجد معظم من اهتموا بالدراسة من دفعتي يفكرون بشكل جيد ولا يقبلون الهذيان الذي ينطلق مِن أفواه مَن يطلقون على أنفسهم إعلاميين، بل ولا يخدعهم من يقول «صحيح يا ماسريين»، لأنهم تدربوا على التفكير النقدي وتحليل الخطاب وتحليل الكلام بشكل محايد. تعلمنا جميعًا أهمية الكلمة، وأهمية استخدامها، وأهمية تحليلها.
في مقالتي «إنهم يخدمون الغرب»، تحدثت عن مفاهيم سياسية واستعمارية، وقلت إننا درسناها في كليتنا. دراستنا، إذن، ليست مجرد «حواديت» نقرؤها ونحكيها، بل علوم ونظريات ندرسها ونطبقها على واقعنا المعاصر.
في الأدب ودراسته، بتتعرضي لأعمال أدبية فيها كم كبير من المشاكل وبعض الحلول ليها. ده بيديكي ثراء فكري (حلوة الكلمة مش كده؟) وبيخليكي عندك قدرة كبيرة على حل المشكلات اللي بتواجهك في الحياة. اتعملنا إن الأدب هوّ الحياة. وده حقيقي. الأدب مراية بتعكس اللي بنشوفه، واللي يشوف بلوة غيره (في رواية) بتهون عليه بلوته.
واحد زمان قوي سألني: هو ليه بتقول إن الأدب فيه حلول للمشاكل، مع إننا عندنا الإسلام فيه حل لكل المشاكل؟ قلت له: الأدب مش بيقدم حلول للمشاكل. الأدب بيعرض المشكلة، ولما يعرضها نبدأ نشوف ح نحلها ازاي بقى وبأي طريقة. صاحبي اقتنع، لأن ده حقيقي بالنسبة للأدب.
آخر حاجة عايز اقولها: أنا ما كنتش حابب إن الخواطر/المقالة دي تبان كأنها دعاية لمكان معين أو أشخاص بعينهم أو كده، بس الصراحة ما اقدرش اختم من غير ما اتكلم عن القسم بشكل شخصي.. عن دادة أم تامر اللي مافيش حد ف آداب إنجليزي ما بيحبهاش وبيعتبرها مامته، وبيلجأ لها في أي وقت عشان تساعده ف أي حاجة يحتاجها.. عن كل دكاترتنا اللي بيعاملونا كأنهم أهالينا مش بيتكبروا علينا زي ما بنسمع عن الدكاترة في الكليات التانية. أنا فاكر إني ف سنة أولى رحت لصاحبي عند كلية علوم (كانت أولى صيدلة وقتها بتاخد محاضرات في مدرجات علوم) وشفت الدكتور بيعامله بعجرفة شديدة، وحسيت إن دكاترة الجامعة دول في «برج عاجي» كده بعيد عن الناس العاديين، لكن عندنا الوضع مش كده خالص. من سنة ونص كده علَّقِت واحدة من كلية الهندسة ع الموضوع ده، وقالت لزميلتي: «إنتوا ازاي الدكاترة عندكم بيهزروا معاكوا وبيتعاملوا بشكل طبيعي كده وتلقائي؟». الدكاترة عندنا بيعاملونا بشكل يحترم آدميتنا، بيعاملوا عقولنا، بيحسسونا إننا بشر لينا قيمة، عشان عايزين يخرجوا أجيال بتعرف تفكر وتشغل مخها وتفيد بلدها بجد.
عندنا اللي بياخد درس بيسقط، مش استقصاد، بس عشان الدرس ده معناه إنك حفظت كلام بتاع حد عاملهولك، وما شغلتش مخك ولا تعبت في المعلومة بشكل شخصي، فما ينفعش تتخرج من عندنا كطالب يواجه سوق العمل بالشكل ده.
أعتقد أن هذا كل ما لديّ لأقوله الآن.
ربنا يوفقكم وتختاروا صح، ويا رب نلاقي كده الناس بتقدَّر القسم العظيم في كليتنا ده، ويعرفوا قيمته كويس قوي...
يا ريت الناس تشارك/تعمل شير للكلام ده عشان نوصل لأكبر قدر من الناس...

أحمد عادل

الأحد 12 يوليه – الأربعاء 15 يوليه 2015 م

الخميس، 19 يونيو 2014

مقعد واحد فقط

مقعد واحد فقط



أكاد لا أرى ما أمامى. أتثاءب بكسل وأتمنى النوم سريعًا. ولكن كيف يأتى النوم وقد حدث ما حدث؟ بل قل لماذا حدث ما حدث؟ أحاول أن أسترجع شريط الذكريات، حديثها وقديمها، علَّنى أصل إلى أى سبب مقنع.

لا زلت أذكر صوتها ونبرتها وطريقة إلقائها للسؤال: «عمرك دخلت مطعم ولقيت كرسى واحد لوحده؟ يعنى عمرك شفت ترابيزة ف مطعم لشخص واحد بس؟» سألتنى هُدى، ونحن نجلس فى ملعب المدرسة التى كنت أعمل بها حينها. مضى على هذا السؤال سبعة عشر عامًا، ولا زلت أذكره. لم تكن هُدى تسخر منى ولا تحاول أن تهيننى، بل كانت تحاول معى، مدفوعة برغبة أخوية حقيقية، أن تقنعنى بالتفكير فى الارتباط والبحث عن فتاة مناسبة تكون زوجتى وأسرتى فى المستقبل. هل سخرت منها حينها؟ لا، لم أفعل مطلقًا. لوهلة أقنعتنى بكلامها، وكنت أعلم جيدًا أن اليوم سيأتى لا محالة، ولكننى كنتُ أشعر أننى صغير. هكذا هو سن الشباب. «فى الشباب قسوة، فى الشباب غباء، وفى الشباب عيون لا ترى» كما تقول الدكتورة رضوى عاشور فى «ثلاثية غرناطة». كنت وقتها فى الخامسة والعشرين من عمرى، فكيف كان لى أن أتخيل أن يأتى هذا اليوم علىّ، وأنا فى الثانية والأربعين، لأشعر بكلمات إحداهن تطعننى فى قلبى وهى لا توجه إلىّ الكلام فى الأساس؟

اتصل بى صديقى حازم ودعانى إلى حفل عيد ميلاد ابنته نورا، وحين اعتذرت له متعللا بالانشغال ببعض الأعمال، أصرَّ وأعطانى زوجته صفاء لتدعونى مجددًا وتؤكد أن نورا ستحزن إن لم أذهب. قبلتُ مضطرًا. لم أعد أحب الاختلاط بالناس فى مثل تلك الحفلات، ولا الظهور فى المناسبات العائلية. أشعر بالغربة بين الناس فى تلك المواقف. أكون وحيدًا بلا رفيق، بينما الأصدقاء، أصدقاء الجامعة والمدرسة التى كنت أعمل بها، بل وبعض الطالبات اللاتى درَّستُ لهنّ، يكونون بصحبة أسرهم الصغيرة: زوجات وأزواج وأحيانًا أبناء وبنات. كان حازم يعمل معى مُدرِّسًا، وزوجته كانت سكرتيرة بالمدرسة. تزوجا منذ عشر سنوات وأنجبا نورا منذ خمس سنوات. هذا هو عيد ميلادها الخامس. اعتدتُ أن أذهب دائمًا إلى هذه الحفلات، حيث أقابل أصدقاء العمل والجامعة القدامى، وأقابل الطالبات أيضًا. لحازم شعبية كبيرة فى المدرسة، يحبه الجميع بلا استثناء: المدرسون والطالبات والدادات. ولذا تكون تلك الحفلات بمثابة تجمع سنوى لمعظم الزملاء.

التعب يهدنى. يجب أن أنام. ولكن إن نمت ولم أكتب ما أريد أن أكتبه لكان خطرًا على صحتى. ربما. سأحاول جاهدًا أن أختصر وأحكى سريعًا كيف انتهى بى الأمر مكلومًا هكذا.

بحثت على الإنترنت عن أفضل الهدايا لفتاة فى الخامسة، ثم ذهبت إلى محل للعب الأطفال واشتريت لها هدية مناسبة. ذهبت إلى حازم واستقبلنى بكل ترحاب. فرحت صفاء حين رأتنى وقالت لى: «أيوة كده. عارف لو ما كنتش جيت! كنا ح نزعل منك قوى». ابتسمتُ وشكرتها ثم ذهبت إلى نورا وأعطيتها الهدية. ابتسمت لى وقبلتنى وقالت: «شكرًا يا عمو. أنا باحبك قوى». قبلتها بدورى وقلت لها: «وانا كمان باحبك قد الدنيا». لم يكن أى من هذا جديد على، فقد كانت عادة سنوية أن أشترى لها الهدية وأن نتبادل مثل هذا الكلام.

ما الذى حدث؟ لماذا نظرتُ إلى نورا هكذا وقد بدت طفلة جميلة؟ لوهلة تخيلت لو كان عندى أطفال فى مثل سنها. كان حازم، الذى يصغرنى بثلاث سنوات، يشتكى من تأخره هو وزوجته فى الإنجاب. تأخرت يا حازم؟ وماذا عنى؟ لا طفلةَ لى ولا زوجة. أكتب الآن وأنا أتذكر ما حدث كأنى أعايشه. تخفت إضاءة الغرفة التى أكتب بها، وأرى نفسى فى بيت حازم، فى حفل عيد ميلاد نورا ابنته، وحولى مَن حولى من المدعوين.

أقف مع بعض الطالبات – أسميهن طالبات رغم أنهن متزوجات الآن ولديهن أبناء وبنات؛ ولكن هكذا هو المدرس، لا يرى أنّ تلميذَه قد كَبُرَ حتى وإن أصبح رجلًا أو امرأة؛ أمزح مع هذه أو تلك، أو أسلم على صديق قديم عرفته من أيام الجامعة واتضح لى أنه يعرف حازم بطريقة ما. كل شىء يبدو جيدًا. فقط هو هذا الإحساس الخانق الذى يأتى متقطعًا، ليقلق راحتى ويلح علىّ متسائلًا: إلى متى ستظل هكذا وحيدًا؟ أتذكر سؤالها – نعم، وأنا فى الحفل – وأحاول أن أبحث عن إجابة: هل يوجد مطعم معروف يوفر طاولة طعام لشخص واحد فقط؟ أليست سنة الحياة هى الزواج وإنشاء عائلة؟

نطفئ الشمع ونبدأ فى أكل التورتة، وأنا أقف مع بعض الفتيات اللاتى عرفتهن فى المدرسة منذ سنوات، قبل أن أتركها وأذهب للعمل بإحدى الجامعات الخاصة بعد رجوعى من أوروبا وحصولى على الدكتوراه. الفتيات فى الجامعة الآن ولَسْنَ فى المدرسة. أسمعهن يتجاذبن أطراف الحديث عن عريس تقدم لإحداهن، ويضحكن ضحكًا مكتومًا. لم يكن من عادتى الإصغاء إلى الحديث الهامس، ولكن الموضوع شدنى. سمعتُ مُنَى، إحدى الفتيات المقربات مِنّى، تقول لرباب: «اتقدم لى واحد بيقول إنه معجب بشخصيتى لما شافنى فى فرح بنت خالى. بس إيه، كبير فى السن قوى، عنده ييجى خمسة وتلاتين سنة». ردّت عيها رباب: «مش عارفة واحد قعد لغاية ما بقى عنده خمسة وتلاتين سنة أعزب ليه؟ أكيد فيه سر وراه». ضحكتا بصوتٍ عال، ثم انضمت إليهن بعض الفتيات اللاتى لم أكن أعرفهن.

«عمرك دخلت مطعم ولقيت كرسى واحد لوحده؟ يعنى عمرك شفت ترابيزة ف مطعم لشخص واحد بس؟» كان هذا كل ما أخذ يتردد فى أذنىّ وصوت الضحكات يخفت تدريجيًا. يختفى المدعوون من حولى وأقف وحدى، وحدى وسط منزل غريب، ربما هو منزل حازم أو ربما هو منزل شخص لا أعرفه. مَن هم هؤلاء الناس؟ أزواج وزوجات، أبناء وبنات، وأنا وحيد. تظهر مُنى فى الصورة أمامى، بتعليقها على العريس «الكبير فى السن قوى»، وهى لا تزال تضحك مع صديقاتها. كبيرٌ فى السنِّ وهو لا يزال فى الخامسة والثلاثين؟ ماذا لو عرفَتْ أنى فى الثانية والأربعين من عمرى؟ ربما تقول إنى جدها، أو ربما قالت إنه يجب علىّ أن أذهب لأشترى لنفسى قبرًا أستعد للموت فيه.

أفقتُ من انفصالى المؤقت عن الزمن وقتها حينما رأيتها. عرفتها من صوتها أولًا. رجعتُ بالزمن عشرين عامًا إلى الوراء. كانت كنسمة هواء معتدل فى يوم صيفى حار. كانت من أفضل الطالبات اللاتى درّست لهن: مهذبة، رقيقة وجميلة جدًا، وفوق كل ذلك متفوقة. لِقُرب سِنِّى من سِنِّها كانت تعتبرنى الأخ الأكبر لها، تحكى لى مشاكلها وأساعدها فى حلها. بعد الثانوية العامة اختفت. اختفت بمعنى الكلمة. غيرت رقم تليفونها وأغلقت جميع حساباتها على الفيسبوك وتويتر وغيرهما من مواقع التواصل القديمة. قلقت عليها وسألت صديقاتها عنها، وبعد فترة توقعت أن يكون الشاب الذى كانت تحكى لى عنه قد طلب منها، أو بالأحرى أمرها، ألّا تكلم الرجال. لم أعبأ ولم أهتم، وإن كنت حزنت على طريقة القطيعة بهذا الشكل. لا أعرف لماذا لا يقدر الناس وجود أناس آخرين فى حياتهم! لماذا نقطع الصلة مع أناس كانت بيننا وبينهم عِشرة، فجأة، وكأننا لم نعرفهم يومًا ما؟

كانت الفتاة ذات الخمسة عشر عامًا فى غاية المرح والحيوية. أقول كانت، لأن التى أراها الآن ليست تلك الفتاة على الإطلاق. لولا صوتها لما عرفتها. ارتدت الحجاب فصارت مختلفة، تمامًا. أستغفر الله العظيم. حسنًا، لن أتكلم عن الحجاب. سأركز فى الموضوع. «كوكى!» ناديتها، كما اعتدت أن أناديها! أسرعَتْ إلىّ وعلى وجهها فرحة حقيقية. «مستر! ياااااه مش مصدقة!» تذكرتنى! بالطبع تذكرتنى. كنت على وشك أن أصافحها حين ظهر رجل خلفها ونظر إلىّ بفضول. «ده المستر بتاعى من زمان قوى، اللى كنت حكيت لك عنُّه». قالتها له مبررة.حكت له عنى! عنى! كنت أعرف اسمه قبل أن تقوله لى، وكيف أنسى، وأنا من نصحتها أن تكمل معه الارتباط حتى يخطبها ويتزوجها. فرحتُ جدًا لرؤيتهما سعداء هكذا، وعرفت منها أنها أُمٌّ لطفلين جميلين، مثلها. ولكن لحظات السعادة لا تدوم يا سادة. «أُمّال فين المدام يا مستر؟ مش عايز تعرفها على كريمة، أو خلينا نقول كوكى؟» اللعنة عليكِ يا كريمة وعلى اليوم الذى رأيتك فيه. اللعنة عليك يا حازم. «لا .. أصل .. أكيد لو كانت موجودة كنت ح اعرّفك عليها». حاولت أن أتكلم كلامًا عامًا حتى لا أضطر أن أخبرها أنى غير متزوج؛ ربما تفهم أنها غير متواجدة اليوم فقط. ولكن هل يخفَى خبرٌ مثل هذا؟ بالطبع عرفَتْ ونظرَتْ إلىَّ نظرة أسى أو ربما اعتذار. لم أعرف. لم أهتم. حسنًا. أنا أكذب. لو لم أهتم لما كتبت عن الموقف الآن!

شعورٌ بالاختناق يسيطر علىّ. أريد أن أرحل من هنا، فورًا. ارتفع ضغط دمى وأحسست أنى لم أعد أنتمى إلى هذا المكان. ملول. أنا شخصٌ ملول. لا أتحمل التواجد مع بعض الأشخاص لمدة طويلة، فكيف بى أن أتحمل الاستمرار مع شخصية بعينها بقية حياتى؟ حين كنت أفكر فى هذا الاحتمال كنت أشعر بالضيق؛ كيف أعيش مع هذه أو تلك بقية حياتى دون «تغيير»؟ كنتُ ساذجًا، أعرف. ولكنى لا زلت أؤمن أنى سريع الملل. الماضى صندوق من الذكريات، منها السعيدة ومنها المؤلمة. إن تساءلتُ لماذا لم أرتبط، جاءت إلىّ ذكرياتٌ أليمة. لحظاتُ فرحٍ ولحظاتُ أسَى؛ ارتباطٌ وانفصالٌ وشعورٌ أنَّ الدنيا قد انتهت، ثم شُروقٌ آخر لشمسِ الحياة يبدو أبديًا، يليه غروبٌ سَرمدِىّ. لم تندمل جراح الجامعة ولا ما تلاها من لحظات فاجعة. الله فى عُلاه لا ينسى. آلمتُ بعضهنّ، فأنَّى لله ألَّا يعاقبنى؟ كيف تفهمين يا كوكى؟ كيف يمكن لطفلة مثل مُنى أن تفهم ذلك؟ هى طفلة فى الجامعة، بالنسبة لى الآن.

أنا العاشِقُ السِّيئُ الحَظِّ
تَمَرَّدَ قَلبِى عَلَىّ
...
أمُرُّ علَى ساحِلِ الحُبِّ. أُلقِى السَّلام
سَريعًا. وأكتُبُ فَوقَ جَناحِ الحَمَام
رَسائِلَ مِنِّى إلِىّ
محمود درويش

أفنيتُ عمرى جريًا وراء ثورة لم تكن، ولم تقم. كنت حالِمًا، أحلم بتغيير مصر والعالم العربى إلى الأفضل. هُراء. لا يوجد مكان للحالمين يا هذا. الحياة مكان للواقعيين. الحالم الرومانسى كان يقول إن مصر سوف تتحسن، وإن نضالك سوف يثمر، وإن الشعب سوف يتغير؛ والواقعى كان يقول انسَ هذا، لن يحدث تغيير، لن يتحسن الشعب. فاز الواقعى بالرهان، بالطبع. لم تشهد مصر يومًا حسنًا منذ أن حكمها الرئيس الحمار العسكرى كما أحب أن أسميه. ما نابنى سوى تضييع عمرى، والوصول إلى لا شىء. سنواتٌ من الاضطهاد لنا لأننا شاركنا فى «المؤامرة» كما سموها بعد ذلك، وسنواتٌ من الاختباء داخل النفس. سنواتٌ فى المعتقل، وسنواتٌ من الهروب. البعض فضَّلَ أن يُهادِن وأن يَلين، ولكننى لم أفعل. باعوا مبادئهم ولم أبِع. أطاعوا قاتلَهُم ولم أُطِع. لم أقل له آمين، فأصبحتُ مِن المغضوبِ علَيهِم ومِن الضَّالين. ولستُ من النادمين. لم أعد أخبر أحدًا برأيى ولا أتكلم فى السياسة مطلقًا. ضاعت السنوات وضاعت فرص الزواج. اللعنة عليكم جميعًا.

استأذنت حازم وقلت له إنى مضطر للمغادرة مبكرًا. «معلش ورايا شوية حاجات كده. كل سنة ونورا طيبة». رفض تمامًا وأصر أن أبقى. قالت صفاء مازحة: «عايز تمشى ليه؟ وراك إيه يعنى؟ مافيش لا مدام ولا عيال يقرفوك فى البيت. ح تروح تقعد لوحدك ليه؟ خليك معانا». لولا أنها صفاء، ولولا أنى أعرف نيتها، لحدث ما لا يُحمَد عُقباه. تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعنى، حرفيًا. احمرت أذناى بشكل ملحوظ، وشعرت بزيادة نبضات قلبى إلى حد مقلق. هل تعتقدون أيها الحضور أنه يجب أن أذهب إلى البيت فقط إذا كانت لدى زوجة وأولاد؟ تشتكون من زوجاتكم وأزواجكن، ثم تسخرون ممن امتنع عن الزواج؟ ارحموا الناس، يرحمكم الله. دعونى وشأنى!

كان يمكن أن أتحمل كل ما حدث، رغم شعورى بالإهانة، لو لم يحدث ما أنهى علىّ تلك الليلة. أصررت أن أغادر، وتعللت بأنى متعب. ولأنه كان باديًا علىّ التعب، خاصة بعد ما حدث، وافق حازم على مضض. لم أعرف إذا ما كان ما حدث بعدها مقصودًا أم أنها كانت صدفة ما، من ضمن العوامل التى تآمرت علىّ تلك الليلة. «باقول لك، مش انت رايح مدينة نصر؟ ما تاخد نهلة معاك فى طريقك!» كان ذلك اقتراح سمية، زوجة أدهم، زميلتنا أنا وحازم وصفاء. لم أمانع بالطبع. هل كانت محاولة منها لتوفيق رأسين فى الحلال كما يحلو لكل النساء أن تفعل؟ لا أعرف. ما أعرفه هو أنى لاحظت صديقة لنهلة تغمز لها بكوعها وتقول لها «بلاش» بشكل استفزنى. كان يمكن أن تمر هذه التفصيلة على شخص عادى ولا يلحظها، ولكنى لاحظتها. كانت كسهمٍ اخترق صدرى وبقى فيه يؤلمه كلما حاولت أن أنتزعه. ركزت معهما دون أن تتمكنا من رؤيتى، ففهمت ما كان يدور بخلدهما. فهمت، ولم أكن أحتاج إلى توضيح. شكرًا. شكرًا جزيلاً.

تصعُبُ هذه الحياة على الحالم العادى، أما بالنسبة للشخص الذى ينشد الكمال، فهى مستحيلة. هذه الحياة مستحيلة بهذا الشكل. ربما يقول قائل إننى أخذت الأمور بحساسية زائدة عن اللزوم. لا أنكر. ولكنك تصبح أكثر هشاشة كلما كبرت فى السن. تأخذ كلام الناس كأنه موجَّه إليك شخصيًا. تضحك على نكاتهم، ثم تفكر فى المعنى وراء إلقاء هذه النكتة دون غيرها فى هذا الوقت تحديدًا. يربط عقلك بين المواقف والأشخاص والأماكن والتصرفات، حتى تكاد تفقده من شدة الضغط عليه. أُدرِكُ الآن أنى أستاذ فى إفساد اللحظات السعيدة. ألم يكن بإمكانى أن أتغاضى عن كل تلك الكلمات والمواقف وأستمتع بالمناسبة المبهجة؟ لِمَ اخترت الانعزال والحزن والرجوع بالذاكرة لأيام حلوة مضت ولن تتكرر؟ تذكرت كلام زميلتى أسماء فى المترو القديم، فى محطة الأوبرا، منذ عشر سنوات، حين قالت لى إننى سأكون وحيدًا عجوزًا إذا استمررت بهذا النمط من التفكير. صدقتِ يا أسماء. يا الله، كيف وصلتُ إلى ما أنا عليه الآن؟

رمَانِى الدَّهرُ بالأرزاءِ حَتَّى ... فُؤادِى فى غِشاءٍ مِن نِبالِ
فصِرتُ إذا أصابَتنِى سِهامٌ ... تَكَسَّرتِ النِّصَالُ علَى النِّصَالِ
وهَانَ فَما أُبالِى بالرَّزايا ... لأنِّى ما انتَفَعْتُ بأَنْ أُبالِى
                                                          المتنبى

لا يا هُدى. كنتِ محقة. ليست المطاعم وحدها هى التى ترفض العزاب من أمثالى. حفلات أعياد الميلاد ترفضهم. الناس ترفضهم. يسخرون منهم. يعتبرونهم خطرًا عليهم. يرون الأعزب ذئبًا بشريًا، حتى ولو كان قِطًّا أليفًا، أو مجرد إنسان – بشر مثلهم. قد كنتُ مخطئًا حين استخففتُ بسؤالك، أو حين لم أعِر اهتمامًا للوقت وظننت أنَّ فى الوقتِ مُتَّسعٌ كى «أعيش حياتى» كما أحببت أن أدَّعى، ثم أتزوج بعدها. هل عشت حياتى حقًا؟ كونت صداقات فى مصر وفى أنحاء الوطن العربى، وساعدت كل من طلب مساعدتى، وسافرت وعدت، ولكنى لم أساعد نفسى...؟ هل كان اختيارًا أم فُرِضَت علىَّ حياة العزوبية فرضًا؟ هل يذهب شخص وحده إلى السينما أو المسرح؟ هل يقبل الأصدقاء دخول «الأعزب» بيوتهم واللعب مع أبنائهم وبناتهم؟ لا أعرف إجابات هذه الأسئلة، ولكنى أعرف إجابةً واحدة: لا! لا يوجد مطعم به مقعد واحد فقط...



أحمد عادل عياد
مدينة نصر – القاهرة
الجمعة، 4 إبريل 2014 م
الموافق 3 جمادى ثانى 1435 هـ
الساعة 1.15 صباحًا

مراجعة وتعديل
الجمعة، 16 مايو 2014 م
الموافق 17 رجب 1435 هـ
الساعة 12.15 صباحًا

إهداء إلى ابن عادل، محمد عادل...

ياللى انت إيه

ياللى انتَ إيه


 ياللى انت عامل فيها تقيل
«إمتى الزمان يسمح يا جميل»
ألاقى نفسى ف وقت قليل
عايش معاك عيشه هنيَّه

ياللى انت عامل فيها زعلان
وتقول لى إيه أصل انا تعبان
حرام عليكى ده انا غلبان
ارحم دموع ساكنه عينيّا

ياللى انت عامل فيها ناسى
آه منك انت .. آه يا قاسى
مين ييجى هنا عندى يواسى
يقول سماح إنت وهىَّ

خلاص كفايه زعيق وخناق
خلاص كفايه زعل وفراق
أنا برضه واحد عنده إباء
ما تعمليش كده بقى فيَّا

أنا عايز اكون شخص مثالى
وقدوه للطلبه عيالى
والاقيكى بُكرَه جايَّه لى
بالابتسامه الورديَّه

تقولى لى آخر مره بجد
ولا حد فينا يزعّل حد
وإيدينا بالسلامات تتمد
ونعيش سعاده أبديَّه

 


أحمد عادل عيَّاد
مدينة نصر – القاهرة
الأحد، 15 مايو 2011
الساعة 2.30 صباحًا

___________
البيت «إمتى الزمان يسمح يا جميل» من أغنية «إمتى الزمان» لعبد الوهاب


باكرهك عشان باحبك

باكرهِك عشان باحبِّك


مش ح اكتب شِعر فيكى
مش قايل أىّ كلام
مش ح اوصِف لون عينيكى
ولا راح اعِدِّ الأيام

مش ح اسهَر طول الليل
ولا افكَّر فى اللى فات
ولا ح ابكى واقول مواويل
ده الحُبّ ف قلبى مات

أنا قلت صحيح باكرهِك
بس ما كُنتِش أعنيها
لو عايزانى أفكّرك
دى «باحبِّك» عايش بيها

خلاص فُكِّى التكشيره
وخلِّى الخناقات دى تفوت
ده انا مِن غيرِك يا أميره
أتمنَّى إنِّى أمـوت

أحمد عادل عيّاد
مدينة نصر – القاهرة
الخميس، 28 إبريل 2011
حوالى 8.30 صباحًا

ودى أول خناقه...

حَـدُّوتِـة بـنـت وولـد

حَـدُّوتِـة بـنـت وولَـد


         
العَجْز طَلَّع مُعجزات
العَجْز طَلَّع مُحبَطين
طول عُمرى عاشق للبنات
والعِشق سابنا مجروحين

حدّوته عن بنت وولد
كان نفسهم يبنوا البلد
كان حُبُّهم هوَّ الوَتَد
كان حلمُهُم حلم السنين

شَقَّه وتكون مش ضيَّقه
واحنا ما نِقدَر ع الشَّقَى
عصافير تِحبّ الزقزقه
والطـيّـبات للطيّبين

نصرُخ نقول يا أهلنا
يرضيكوا يفشل حلمنا
مش كُنتوا برضُه زيِّنا
والاّ اتولدتوا مرتاحين

الفقر دايس حلمهم
والقهر دابح قلبهم
الحُب زاد مِن عزمهم
صحيوا لقوهم ميّتين



  
عصفوره ماتت ع الشجر
عصفوره أجمل م القمر
إنسانه فوق وصف البشر
عصفورها مات إنسان حزين

كان نِفسُه يسعِد قلبها
كان حلمُه يسعَد جنبها
كان لَمَّا يسمع حِسَّها
ينشِد كلام العاشِقين

كانت بتعشق بسمته
كانت تسانده ف محنته
كام مرَّه مسحت دمعته
والحزن بصمه ع الجبين

ماتوا كده وفارقوا الحياه
والحُبّ مكتوب ع الجباه
واللى سأل ع الحُبّ تاه
خلِّيك بعيد .. خلِّيك رزين

العَجْز طَلَّع مُعجزات
العَجْز طَلَّع مُحبَطين
طول عُمرى خايف م الحاجات
اللى تسيبنا مكسورين

«مفروض ماحدّش يفترى
ويبيع كأنه بيشترى
العُمر خد بعضه وجرِى»*
أنا كُنت واحد .. أصلُه طين



أحمد عادل عيَّاد
مدينة نصر – القاهرة
التلات، 12 إبريل 2011
الساعه 1.30 الصبح


* من قصيدة «خيال النور» للشاعر فؤاد حدَّاد