الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

الطريق إلى غزة


الـطـريـق إلـى غـزة


قررت أن أسافر إلى غزة هذا العام مع الوفد المصرى المشارك فى احتفالية فلسطين للأدب بغزة 2012. استخرجت جواز السفر خصيصًا لهذا السبب، وأخذتُ أدَّخِر المال كى أتمكن من السفر. ولكن نظرًا لانشغالى بالعمل، لم أتمكن من تقديم طلب الحصول على التصريح فى الوقت المناسب. لم أكن أتصور أن التصريح سيحتاج إلى وقت، خصوصًا بعد «ثورة» وتغيير «نظام»! أخذت أسأل جميع من حولى حتى استقر القول على حتمية الذهاب إلى مجمع التحرير لاستخراج التصريح المطلوب. ذهبت وتقدمت بطلب، وكتبت السبب: حضور احتفالية فلسطين للأدب PalFest بغزة؛ ولكنى فوجئت بهم يقولون إنه علىّ الانتظار حوالى ثلاثة أسابيع قبل الحصول على التصريح. حاولت أن أخبرهم أن الاحتفالية على وشك البدء، ولكنهم قالوا إنها القوانين، ولا يمكن الاستثناء مهما حدث.

رجعت وتواصلت مع الأستاذة سامية جاهين، فأخبرتنى أنى تأخرت وقالت إننى كان يجب أن أذهب إلى وزارة الخارجية وليس مجمع التحرير. وهذا نص ما تبادلناه:

مس ساميه إزىّ حضرتك؟ معلش أنا عارف إنه مش وقته وإن الظروف صعبه، بس أنا قريت فى «الجارديان» إنك ضمن الناس اللى مسافرين غزه عشان مهرجان/احتفالية الأدب، وأنا عايز أسافر ومعايا باسبور مسموح أسافر أى وقت عشان غير مطلوب للتجنيد، بس مش عارف أجيب تصريح سفر غزه منين.

حاولت أوصل لدكتوره رضوى عاشور كذا مره بس ما ردتش عليّا، وسألت اصحابى الفلسطينيات قالوا لى لازم التصريح من هنا الأول .. أعمل إيه؟ أرجوكى الموضوع ده مهم جدًا بالنسبه لى .. أنا بقالى مدّه باحوّش عشان السفريه دى

شكرًا مقدما


فقالت:

للأسف يا احمد كان لازم تحاول من بدري شوية لإننا مسافرين السبت والتصريح بياخد وقت.. الأول بتسلم صورة من باسبورك لوزارة الخارجية ووزارة الخارجية تجيب تصريح من أمن الدولة والداخلية ... وأصلا بكرة الجمعة كله أجازة


ذهب الوفد المصرى إلى غزة وكنت أتابع أخبارهم على النت ومن خلال أصدقائى فى غزة. كان قلبى يتقطّع كلما تذكرت رغبتى فى أن أكون معهم. مرت الأيام وقابلت الدكتورة رضوى عاشور، فأخبرتنى أنها كانت مريضة حين حاولت الاتصال بها، وقالت إنها ظنت أن الكُتَّاب والأدباء هم فقط من كانوا سيسافرون، ولكنها حين رأت أن هناك شبابًا أو نشطاء مع الوفد، أدركت أنه كان بإمكانى السفر معهم. ذهبت إلى المجمع أيام الاعتصام بعد محاكمة مبارك فقالت لى الموظفة هناك إنهم يطلبون منى أوراقًا تثبت أنى مسافر لحضور احتفالية فلسطين للأدب! قلت لها: «ماهى الدعوه عامه، أجيب ورق ازاى؟» ثم سألتها: «طب لو عايز أروح سياحه؟» قالت: «مافيش سياحه». قلت: «طب لو عايز أزور قرايبى؟»، قالت: «تجيب شهادات ميلادهم وما يُثبت إنهم قرايبك وكده»!

لم أنسَ، ولم أيأس. قلت فى نفسى: سأسافر فى الصيف. توارى الموضوع فى ذهنى وسط انشغالات عدة وأحداث مصر الجارية، حتى أتت رنا بكر من غزة فأحيت الموضوع فى نفسى إحياءً عظيمًا. حين سافرَتْ هى إلى تونس ذهبتُ أنا إلى وزارة الخارجية هذه المرة وتقدمت بطلب للسفر إلى غزة، يوم الثلاثاء 10 يوليه 2012. رفض رجل الأمن فى البداية دخولى المبنى وقال لى إن التصريح يأتى من مجمع التحرير، ولكنى أصررت وقلت له إن الوفد الذى سافر قبلى قد أتى بالتصريح من هنا. وأمام إصرارى، تحدث هاتفيًا إلى مكتب شئون فلسطين بالمبنى، فكلمتنى سيدة وسألتنى عن سبب الزيارة. جاءنى السبب فى رأسى فجأة هكذا (رغم أنه ليس حقيقيًا) فقلت لها: «عايز ازور اصحابى ويمكن أشوف أهل واحده كده عشان فيه موضوع خطوبه». فقالت لى: «طب اتفضل عندنا فوق».

صعدت واستقلبتنى الموظفة بكل ترحاب وقامت بإعطائى ورقة كتبت فيها طلبًا باسم السيد وزير مفوض بهاء دسوقى، نائب مساعد الوزير لشئون فلسطين. طلبت «السفر إلى غزة فى الفترة من 27 يوليه 2012 إلى 3 أغسطس 2012، وذلك لزيارة أصدقاء والتعرف على أهل فتاة سوف أخطبها»، هكذا بالنَّص. وتركت لهم صورة من جواز السفر ورقم تليفونى المحمول.

وفى يوم 22 يوليه اتصلت بى السيدة من وزارة الخارجية وقالت لى إن التصريح قد جاء بالموافقة على سفرى إلى قطاع غزة عبر معبر رفح البرى، فى الفترة من 28 إلى 4 أغسطس، حيث إن 27 يوم جمعة والمعبر يكون مغلقًا؛ وطلبت منى الذهاب لأخذ التصريح يوم الثلاثاء، حيث كان يوم الاثنين إجازة بسبب عيد ثورة 23 يوليه.

ذهبت وأخذت التصريح، فقال لى الموظف مبتسمًا حين رآنى: «مش انت رايح عشان جواز؟» فقلت له مبتسمًا: «لأ خطوبه»! فقال لى: «التصريح مكتوب فيه أسبوع بس انت ممكن تقعد لحد 15 يوم عادى، عشان بس ما تبقاش رابط نفسك ومستعجل وكده». شكرته وانصرفت وقلبى يرقص من شدة الفرح. سأسافر إلى غزة وأحقق أحد أحلام حياتى.

أقول أحد أحلام حياتى لأن زيارة غزة بالفعل تعتبر أحد أحلام حياتى. بدأت تلك الفكرة فى رأسى مع قراءتى لكتاب «فى مواجهة المدافع» للدكتورة أهداف سويف، ثم رواية «رسائل ملائكية» لنيرة سمير، ثم من معرفتى بالأصدقاء الغزاويين على تويتر وفيسبوك. أسهم كل ذلك فى تنمية الحلم لدىّ حتى حصلت على التصريح وتمكنت أخيرًا من السفر. تواصلت مع الأستاذة سامية جاهين مرة أخرى:

أنا إن شاء الله مسافر غزه فجر السبت .. عايزين حاجه من هناك أو أوصل حاجه لحد؟ :)

معقولة! برافو عليك والله فضلت ورا الموضوع لغاية ما حتعمله :) مسافر لوحدك ولا معاك مجموعة ولا إيه؟

لا مسافر لوحدى. المره دى رحت الخارجيه زى ما قلتى لى وفضلت أقول له أنا متأكد إن التصريح من هنا عشان هو كان عمال يقول لى روح مجمع التحرير، لغاية ما الحمد لله جالى تصريح. بانسق مع رنا بكر والباقيين عشان اقابلهم هناك إن شاء الله :)


فجر السبت 28 يوليه سافرت إلى معبر رفح؛ نزلت من البيت الساعة 3 صباحًا، ووصلت هناك الساعة 8:30 صباحًا، أى قبل أن يفتح المعبر بنصف ساعة. وقفتُ فى طابور طويل فى الشمس الحارقة لمدة ساعة، حتى وصلت إلى البوابة الخارجية للمعبر الساعة 9:30. أعطيت الضابط (نقيب) جواز سفرى ومعه الورقة المختومة من وزارة الخارجية، فقرأها وقال لى: «خلى الورقه دى معاك جوّا الباسبور». دخلت إلى المعبر وملأت ورقة/استمارة «سفر مصرى» ووضعت الطابع وذهبت إلى العسكرى لكى أعطيه الجواز. وهنا بدأت المشاكل.

نظر العسكرى إلى الجواز والاستمارة ثم قال: فين التصريح؟

أهه عندك فى الورقه البيضا دى

ألقى الورقة بعنف وقال لى: ده مش تصريح! فين التصريح الأصفر؟ دى مذكّره!

طب ما هى دى اللى ادّوهالى فى وزارة الخارجيه!

لأ، روح هات لنا التصريح من مجمع التحرير!

يا فندم ما هو ده التصريح اللى الوفد اللى قبلى سافروا بيه!

وأمام إصرارى على السفر قال لى: طب روح بقى للنقيب أحمد بيه ع الشمال أهه.

ذهبت للضابط الجالس على بعد كرسيين منه، وسألت: «حضرتك النقيب أحمد؟». رد بكل كبرياء دون أن ينظر: عايز ايه؟

حضرتك أنا معايا تصريح سفر لغزه وبيقول لى مش ده!

إنت مصرى؟ معاكش وثيقه فلسطينيه؟ يبقى تجيب تصريح سفر أصفر من مجمع التحرير.

طب ما انا لما رُحت المجمع قالوا لى روح وزارة الخارجيه، وفى الوزاره ادّونى التصريح ده!

ده مش تصريح، دى مذكره. إنت عايز تسافر ليه؟

ح اشوف أهل بنت عشان أخطبها.

طيب لازم ظابط الاتصال (المخابرات) هو اللى يقول لك آه تسافر والا لأ ما تسافرش. كده مش ح يرضوا يدخلوك.

طب حضرتك ممكن تسيبنى أحاول معاهم ويمكن يرضوا.

هم مين دول اللى يرضوا؟ باقول لك مش ح ينفع.

بص حضرتك، دى موافقه من نائب مساعد الوزير لشئون فلسطين بنفسه!

والله لما يكون الوزير مين بنفسه، طالما ظابط المخابرات ما قالش تسافر يبقى مش ح تسافر.

كانت هذه هى الجملة التى أربكتنى، جعلتنى أشعر أن النظام لم يسقط. لم تقُم فى مصر ثورة. لم يتغير شىء. ما زال العسكر يحكمنا. ما زال الأمن هو من يقول مَن يذهب ومَن لا يذهب، هو مَن يعطى التصاريح ومَن يمنع! وحينما قلت للضابط إننى قادم من سفر وليس من المعقول أن يطلبوا منى العودة كل هذه المسافة من أجل «ورقة»، لأننى لستُ الآن على بُعد نصف ساعة من المجمع مثلا، قال: طب استنى خمس دقايق كده وتعالى تانى.

أستنى هناك طيب؟

أيوه بقى وما توجعليش دماغى!

ذهبت إلى الحمام وغسلت وجهى وعدت إلى الضابط بعد حوالى 12 دقيقة.

آسف على التأخير.

بص، عشان نريّحك ح نسأل ظابط المخابرات اللى جوّا وهو يشوف بقى الوضع ده.

طلب من العسكرى الذى ألقى الورقة بوجهى أن يدخل للضابط ويسأله، وقال له أمامى وهو ذاهب للداخل: «بص، يا (آه) يا (لأ)». أى أنه لم يُرِد من العسكرى أن يشرح الوضع أو ما إلى ذلك، بل يسأله: هل هذا يصلح، فتكون الإجابة، بالطبع، لا!

حين عاد العسكرى نادانى الضابط وقال لى: «زى ما قلت لك، لازم تروح تجيب موافقة ظابط الاتصال، عشان هو اللى ح يقعد معاك ويعرف انت عايز تسافر ليه بالظبط وكده. روح له وتعالى لى بعد يومين كده أو على حسب هو ح يقول لك إمتى. اتفضل».

خرجت من باب الدخول، فقال لى رجل جالس على باب التفتيش: السفر الناحيه التانيه.

أنا مش مسافر. رجعونى عشان عايزين ورقه صفرا مش بيضا!

ورينى ورقك كده طيب وما تزعلش نفسك. إنت بتتكلم زينا! إنت مصرى؟ إنت مسافر ليه أصلا؟

مسافر أشوف اصحابى وأخطب واحده.

وهو يعنى مصر خلاص مافيهاش بنات عشان تعدّى الحدود؟ عندك 90 مليون بنت متعلمه وخريجة جامعه وبنات محترمين .. بس تقول إيه بقى! فيه ناس مخها كده!

آه بالظبط .. أنا مخّى جزمه .. شكرًا يا فندم!

خرجت ولا أكاد أرى ما أمامى. كانت الساعة حوالى 10:50. مشيت فوجدت رجلين يجلسان تحت شجرة يسألاننى: راجع؟ أخبرتهم أنى لم أسافر أصلا وأنى من مصر ولست من غزة. «طب ما تسافر م الأنفاق بدل كل الشغلانه دى!». وقع علىّ الكلام كالصاعقة. هم يتحدثون عن الأنفاق ونحن لا زلنا داخل معبر رفح! لم أكن قد تجاوزت البوابة الحديدية الخارجية. مشى معى أحد الرجلين وأخبرنى بكافة التفاصيل. أدفع لهم 100 دولار فيأخذوننى فى سيارة إلى قطاع غزة فى عشر دقائق عبر الأنفاق. أدفع 100 شيكل وأنا عائد، ولن أقع فى مشاكل! أخذت رقمه وقلت له سأعود إلى القاهرة لآتى بالنقود وأتصل به.

وصلت إلى البوابة الحديدية فاتجهت ناحية الدخول وليس الخروج، لأنى قد «أُرجِعت» ولم أسافر. سألنى الموظف على الباب: «مين اللى دخّلك أصلا بورقك ده؟» فقلت له: «واحد .. مش عارف مين .. لابس ظابط». أشار إلى نقيب يجلس بعيدًا: «ده؟ طب روح له كده». ذهبت إلى النقيب وأريته الجواز والتصريح، فقال لى: معلش ما خدتش بالى الصبح وانت داخل، ده المفروض التصريح بتاع الفلسطينيين مش المصريين!

إزاى يا فندم وأنا جايبه م الوزاره؟

المفروض تجيبه من وزارة الخارجيه المصريه.

طب ما اهه قدامك وزارة الخارجيه المصريه، والختم أهه!

أيوه بس مكتوب إيه؟ شئون فلسطين! مش شئون مصر!

طب ما أنا مسافر فلسطين مش مصر! وبعدين هم هناك فى الوزاره عارفين إنى مصرى! جوّا بيقولوا لى أرجع أجيب تصريح أصفر.

آه المفروض تجيب تصريح أصفر خاص بالمصريين، بييجى من وزارة الخارجيه برضه بس مش عارف فين بالظبط.

بس جوّا قالوا لى من مجمع التحرير! أروح فين بقى أنا؟

مش مشكله ماهى وزارة الخارجيه ومجمع التحرير جنب بعض قوى، مش مشوار يعنى! دى كده وده كده.

ما انا عارف والله، ومشيت ما بينهم قبل كده. بس أنا مش عايز أقعد أسافر وارجع كده.

أنا باقول لك اللى بييجى لى بيبقى من وزارة الخارجيه! عايز تروح مجمع التحرير برضه تجرب روح. وبعدين ما فيه طريق تانى كده!

قالها وأشار بيده وضحك بما يشبه الغمز، ففهمت أنه يقصد الأنفاق! لم أكن أتصور أن الموضوع معروف بهذه الدرجة، حتى للضابط الذى يقف على المعبر! قلت له:

يعنى هى دى غلطتى إنى عايز أمشى رسمى؟ ما انا كان ممكن أمشى غلط م الأول، بس أنا حبيت أمشى صح! خلوا بالكوا إن انتوا اللى بتدفعونا نمشى غلط!

ضحك ولم يعلق.

خرجت فى غاية الانفعال والانهيار النفسى. ذهبت إلى محل/كافيتريا بجوار المعبر لأنى أحسست بهبوط فى الدورة الدموية، وبالفعل ساعدنى الناس هناك على شرب عصير مانجو (رغم أنى كنت صائمًا) وأكل بعض الحلوى حتى أسترد أنفاسى. جاءوا لى بكرسى وأجلسونى وأخذوا يهدئونى قليلًا. سألونى عن سبب انفعالى فأخبرتهم بما حدث، فقال لى صاحب المحل، الشيخ جبريل: «طب ما تخش أنفاق». سألته عن مسجد لأصلى صلاة الاستخارة، فصعدت لأعلى وصليت ثم جلست لأشحن الموبايل وأستريح قليلًا، وكانت الساعة 11:15. وبعد فترة أذّن الشيخ جبريل لصلاة الظهر، وحين انتهينا من الصلاة سألته: «طب أنا دلوقتى حاجز فى فندق، ينفع أدخل الفندق وأنا باسبورى مش مختوم؟». قال لى: «آه عادى، ح يعرفوا إنك داخل من الأنفاق. إنت فاكر إنك ح تهرب لجوّا؟ ده فيه تنسيق مع حماس. ح نديك ورقه كده تحطها ف عين أتخن واحد يكلمك، تقول له إنك داخل بتنسيق مع حماس، وماحدش ح يقدر يكلمك. ما تخافش. وانت فى السكه ح يكون الورق جهز خلاص».

دفعت له المائة دولار وذهبت مع رجل من رجاله لكى أركب سيارة وأذهب بالأنفاق. ولكنى سألت الشخص الآخر: «أنا بس عايز اتأكد من موضوع الفندق ده، هل مافيش مشاكل إنهم يلاقوا جواز سفرى مش مختوم؟». رد أحد الأشخاص بجوارنا: «لأ مش ح ينفع. إنت مصرى؟ لأ لازم نتأكد الأول. معلش استنى عند الشيخ جبريل طيب لغاية ما نعمل التنسيق».

ذهبت وجلست ما يقرب من نصف ساعة، ثم سألت الشيخ جبريل عن الوضع، فقال لى: حماس قافلين دلوقتى، ح نعمل التنسيق بعد الفطار. نفطر مع بعض يا سيدى وبعدين تبقى ف غزه إن شاء الله.

بس أنا مش نايم من امبارح وتعبان، مش ح اقدر أقعد كل ده.

خد مفتاح شقتى وروح نام براحتك.

لأ خلاص أنا ح اطلع اقرا قرآن شويه واريح فى الجامع لغاية ما اشوف ح يحصل إيه.

صعدت إلى المسجد وبدأت فى قراءة القرآن، وإذا بأستاذة سامية جاهين تتصل بى لتستفسر عن الوضع لأنى كنت قد بعثت إليها برسالة أتساءل فيها عن التصريح بدلًا من العودة كل هذه المسافة ويكون التصريح سليمًا. شجعتنى على الاستمرار فى محاولة الدخول من المعبر، وقالت لى: «حاول تعمل لهم دوشه واطلب مقابلة الظابط الكبير المسئول هناك وقل له إن ورقك سليم وكده، وشوف إيه اللى ح يحصل. وع العموم الأنفاق أمان جدًا بس حاول م المعبر الأول».

وكأن هذه كانت نتيجة الاستخارة، ذهبت إلى الشيخ جبريل لآخذ منه جواز السفر (لأنه كان قد أخذه منى وأخذ اسم الفندق لكى ينسق مع حماس) وأخبرته أنى سأحاول أن أقابل الضابط المسئول. ثم أخذت منه المائة دولار لأنه فى حال تمكنى من السفر عبر المعبر لن أحتاج إلى دفع أموال للأنفاق.

عبرت من البوابة الحديدية الأولى، فنادانى على الفور نقيب آخر كان يجلس بالقرب من النقيب الطيب الذى أشار علىّ أن أذهب عبر الأنفاق. «ها عملت إيه؟». قلت له إنى قد اتصلت بأشخاص ممن سافروا قبلى وأكدوا لى أن ورقى سليم، وطلبت أن أقابل الضابط المسئول بالداخل.

بس انت مش ح ينفع تخش م الباب ده أصلا بالورقه دى.

ما انا دخلت الصبح.

آه بس كانت غلطه.

طب أشوف الظابط واكلمه ازاى يعنى؟

استناه هنا بقى ع الباب لغاية ما ييجى خارج وابقى كلمه ساعتها.

ح يخرج إمتى؟

ع الساعه 3 كده.

كانت الساعة وقتها تقارب 1:15، فعدت إلى الشيخ جبريل وقلت له: إيه النظام يا شيخ جبريل؟

بعد الفطار إن شاء الله نحاول ندخلك، ولو مش عايز النهارده أنا كده كده يوم الاتنين داخل غزه، ح يبقى معايا واحد من حماس، ح ياخدك من إيدك كده يدخلك لحد الفندق وماحدش ح يقدر يكلمك.

طيب خلاص أنا ح ارجع القاهره واكلمك فى التليفون أشوف الظروف إيه وان شاء الله آجى ع الاتنين كده.

وبينما أنا ذاهب باتجاه سيارات العودة إلى القاهرة سألت الشخصين الذَين كانا يصطحبانى للسيارة: ليه يعنى تصريح وبتاع عشان أخش غزه؟

مش انت حبيب طنطاوى وعندكوا فى القاهره؟ إسأله بقى!

ربنا ياخده! (قلتها بتلقائية وبعنف وبلا تفكير)

ضَحِكَا وقال لى أحدهم: هُمَّ خايفين إنك تروح تحرر القدس!

القدس إيه يا عم؟ هى غزه قريبه م القدس خالص؟

اِحمِد ربنا! فى العهد السابق ما كنتش تقدر تقرّب من هنا أصلا، كان زمانهم قبضوا عليك!

آه صح، قال يعنى كده إنجاز بقى إنى آجى لغاية هنا وارجع تانى!

بدأنا التحرك فى اتجاه القاهرة الساعة 2:30 ظهرًا بعد أن مكثت فى الشمس لوقت غير قليل. وفى طريق عودتى أخبرنى السائق أنه يمكنه أن يدخلنى عبر الأنفاق ب100 شيكل فقط، وليس 100 دولار! توقفنا فى الطريق لنفطر ثم عدت إلى بيتى حوالى 10:45 مساءً دون أن أنام طوال الوقت! وصلت فى غاية الإحباط ومن يومها وأنا نائم بالسرير، لا آكل إلا القليل ولا أكلم أحدًا.

ما المنطق فى «تصريح» لغزة؟ أنا إن أردت أن أذهب إلى أى دولة فى العالم فسوف أذهب إليها دون عناء، فلماذا غزة؟ ولماذا يستغرب الناس حين أقول لهم إنى أردت الذهاب إليها؟ أليست دولة عربية مثل أى دولة، أم أن الإعلام قد أثر تأثيرًا حقيقيًا فى جعل غزة بؤرة من بؤر الإرهاب ومصدرًا من مصادر الرعب للمصريين؟ عجبى!

يسقط يسقط حكم العسكر...


أحمد عادل عيَّاد

مدينة نصر – القاهرة

الثلاثاء، 12 رمضان 1433 هـ

الموافق 31 يوليه 2012 م

الساعة 10 صباحًا

الجمعة، 20 يناير 2012

إنهم يخدمون الغرب

إنَّهُم يَخدِمونَ الغَرب

كنتُ أشرحُ بالأمس لإحدى الطالبات العزيزات الثائرات، هند عوض، لماذا لا يصدق الكثير من الناس أن هناك من يعمل من أجل مصلحة هذا الوطن دون أن ينتظر مقابل. بدأ الحوار حين رأيتها مستاءة جدًا وغير مصدقة بعد أن قرأت تغريدة لشاب يقول إنه يخجل من أن بلده بها أناسٌ مثل أحمد دومة وأسماء محفوظ ونوارة نجم، ووصفهم بأنهم «أشكال قذرة» (بالعامية). بحثتُ اليوم فى صفحته فوجدته شابًا تافهًا جدًا، لا يملك إلا أن يشتم هذا وذاك، ولا يعرف أصول الحوار أو التحليل المنطقى. قلت لهند إن الموضوع له أصول قديمة، وقد يتعجب القارئ مما سوف أكتبه، ولكنى أعتقد أن الموضوع يستحق الاهتمام.

باختصار شديد حاولت أن أقول لها إن بعض الناس ليس باستطاعتهم تصديق وجود أشخاص يعملون على خدمة غيرهم، ولا يدفعهم أحد لذلك، وذلك لأنهم أنفسهم لن يخدموا غيرهم دون مقابل. فالشخص الذى لا يقوم بالفعل بنفسه يصعب عليه تصديق وجود أناس غيره يقومون بالفعل. فمثلاً: كنتُ فى مدرستى آخذ راتبًا أعلى من كل زملائى بشكل ملحوظ، ولكننا قمنا بعمل احتجاجات بالمدرسة للمطالبة بالمساواة فى الأجور. نادتنى المديرة وسألتنى، أمام الطالبات، إذا كان مرتبى أعلى من زملائى، فقلت لها إنه أعلى بكثير، بل أكثر ممن هم أقدم مِنِّى بسنوات. سألتنى بما معناه «لماذا تشغل نفسك بغيرك إذن؟»، فقلت لزملائى إنها لا تصدق أننى أناضل من أجل زملائى، لا من أجل مصلحة شخصية، لأنها، نفسها، لن تفعل مثلما أفعل.

على أن الموضوع يتجاوز كل ذلك بكثير، وأرجعته، فى شرحى لهند، لنظريات استعمارية درستها على يد أساتذتى، الدكتورة رضوى عاشور والدكتورة عطاف البنا والدكتور أحمد جمال والدكتورة شيرين مظلوم وغيرهم. فقد غرس المُستَعمِر (بالكسر) فينا، على مدى قرون، سواء أثناء احتلال أو بعده (عن طريق الغزو الثقافى)، شعورًا بالدونية والانكسار، وعدم القدرة على تقرير المصير. فأضحَى الشعور العام أننا لا نملك الاختيار، وليس باستطاعتنا فعل أى شىء. نحن دومًا المفعول به، وليس الفاعل. قلتُ لها إن النظرية، ببساطة، هى: «أنتَ أحقر مِن أن تقرِّرَ مصيرَك بنفسك لأننا أعلَى مِنكَ فى المرتبة البشرية. أنتَ العبدُ ونحنُ دومًا الأسياد». ربما يبدو الكلام صادمًا، ولكنها حقيقة ما غرسه المُستَعمِر فى المُستَعمَر (بالفتح) على مَرِّ العصور. ولذلك تعجب الكثير من الناس حين وجد الكثير من الشباب يقررون مصيرهم بأنفسهم، دون أوامر من أحد.

ونحن إذ نتعلم تعليمًا غربيًا، فليس غريبًا علينا أن نستخدم هذا العلم ضد هيمنة الغرب نفسه علينا. وها نحن نرى شباب فلسطين يدوِّنونَ بإنجليزية تُطابِقُ إنجليزية البريطانيين والأمريكان أنفسهم، ويستخدمون هذا العلم فى نشر القضية الفلسطينية وتعريف العالم بجرائم الصهاينة. فالعلمُ إذن، وإن كان فى ومِن مدارسَ غربيةِ الفِكر، لا يُعتَبَر جريمةً يُعاقَبُ عليها الشباب. أقول هذا الكلام لأوضح سبب استخدامى لاثنين من فلاسفة الغرب، لُوِى ألتوسير وفرانز فانون، فى إثبات صحة وجهة نظرى.



يقول لوى ألتوسير إن الإنسان أو الشعب يمكن السيطرة عليه بوسيلتين أساسيتين، يسميهما «أجهزة الدولة القمعية» و«أجهزة الدولة الأيديولوجية». تتمثل أجهزة الدولة القمعية فى «القوانين والمحاكم والشرطة وأخيرًا الجيش»؛ وتتمثل أجهزة الدولة الأيديولوجية فى «العائلة، ووسائل الإعلام، والموسسات الدينية، والأهم (خصوصًا فى المجتمعات الرأسمالية) النظام التعليمى»*. هذه هى وسائل الدولة للتحكم فى شعوبها. وليس غريبًا أن نرى أنه كُلَّما زادت نسبة الجهل، كُلَّما سَهُلَت سيطرة الحُكَّام على الشعوب. فالجاهل يمكن إيهامُه بأى شىء، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة.

يعرف معظم الناس وسائل/أجهزة الدولة القمعية، التى تقمع أية محاولة للخروج عن الإطار أو الشرعية كما يقولون. ولكن لا يدرك الكثيرون خطورة وسائل/أجهزة الدولة الأيديولوجية. فتلك الوسائل وسائل خفية، ناعمة، «من تحت لتحت» كما نسميها. من المعروف أن الأيديولوجيات هى مجموعة الأفكار التى تُشكِّل الفرد والمجتمع وطريقة التفكير. إنها حربُ الأفكارِ إذن. فالتعليم يزرع أفكارًا قد يصعب نزعها من الشخص بسهولة، والإعلام يسيطر على العقول بسرعة لا يمكن قياسها. ولذلك، إن أراد الناس تمجيد الحاكِم، يضعونه فى كتبِ التاريخ التى يَدرسُها الطلاب وكأنه بطلٌ مغوارٌ لا مثيلَ له، وكذلك إنْ أراد الحاكِمُ تشويهَ مَن قبله، فإنه يَذكُرُ مساوئه فقط ولا يَذكُرُ تاريخَه المُشرِّف، وهكذا.

وفى رأيى، أقولُ إنَّ أجهزةَ الدولة الأيديولوجية أخطرُ بكثيرٍ مِن أجهزتها القمعية، فالقمعُ يُرَى بسهولةٍ ووضوحٍ للعيان (بغضِّ النظر عن بعض الناس الذين ابتلاهم الله بطبيعة غير بشرية، لا تتأثر بقتل النفس البشرية، وتحاول تبرير تلك الجرائم)؛ أما حرب الأفكار فلا يُدركها عَوامُ الناس، ويقعون فريسةً لها بكل بساطة. ولذلك، فإن تطهير الإعلام لا يقل أهمية عن تطهير وزارة الداخلية، بل يكاد يعادله فى الأهمية.

ولا عَجَبَ إذن من أن الناس تصدق ما يُقال لها علَى شاشات الإعلام المُوَجَّه: فنحن لنا ميراثٌ طويل مع تعليم تلقينى، يوجِّه فيه الأستاذُ الطالبَ إلى ما هو «صواب»، وغير ذلك يعتبر «خطأ» لا يمكن قبوله. لم نتدرَّب على تمرير المعلومة على «فلتر» لنرى أنقبل أم نرفض؛ لم نتعوَّد على التحليل والنقد، للأسف.



فى كتابه «جلد أسود، قناع أبيض»**، يقدم فرانز فانون تحليلاً نفسيًا لشعور الشعوب السوداء إزاء الشعوب البيضاء، فيقول ما معناه إن المُستَعمِر الأبيض غرس عقدة الدونية والخنوع فى المُستَعمَر الأسود، حتى جعلَ الأسودَ يتمنى أنْ يكونَ أبيضَ لكى يكونَ على مستوى إنسانيةِ الأبيض. ولذلك، فقد يتصرَّف الأسودُ على أنه أبيض، لمجرد أن يشعرَ أنه إنسانٌ على مُستوى بقيةِ البشر. فيستخدمُ الأسودُ لغة «السيِّد» الأبيض فى كتاباته، ويلبس ملابس السيد الأبيض، ويحاول قطع كل علاقة له بتراثه الأصلى، لأنه يشعر فى قرارة نفسه أن الأبيض/الغربى هو النموذج الذى ينبغى أن يكون عليه البشر.

لقد وقعنا ضحايا غزو ثقافى زرع فينا شعورًا أن الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، هى صاحبة السيادة والقرار فى كل شىء. فمصرُ لن تتغير طالما الولايات المتحدة لا تُريد تغييرها، وفلسطينُ لن تتحرَّر طالما الولايات المتحدة لا تُريد تحريرها، إلى آخر هذا الكلام. وهذا، وإن كان فيه جانبٌ كبيرٌ مِنَ الصِّحة، إلا أنه لا يجب أبدًا أن يجعلنا نصدّق أننا، نحنُ الشبابَ الذى قرر أن يثور، قد تلقينا أوامرَ من أمريكا ولا من غيرها. فالمتابع للتصريحات الأمريكية فى بداية الثورة وفى وسطها وآخرها سيجد ارتباكًا واضحًا فى ردود الأفعال. وقد قال لى دكتور تميم البرغوثى يومًا إنه كان فى أمريكا خلال الأيام الأولى للثورة المصرية، وقد رأى الإعلام الأمريكى يحاول أن يُقنعَ العالَمَ أنهم هُم مَن علّمونا الحرية والديموقراطية، بل وهم من صنعوا الثورة!

وعليه، فإن كل من يردد ويقول إن الثوَّارَ مُمَوَّلين مِنَ الخارجِ أو عُملاءَ للغرب، أو أنهم تلقوا أوامرَ بالثورةِ مِنَ الولايات المتحدة وغيرها، إنما يَخدِمُونَ الغَربَ بذلك، فهُم يرَوِّجونَ لأفكارهم الاستعمارية المُثَبِّطَة للعزائم، وينسبون الفضلَ لمن لا يستحقونه، بل وينفون عن شبابِ مصرَ الباسلِ أيَّة قُدرةٍ على اتخاذِ القرارِ وتحديد المصير واختيار ما يريدون. ألا ساء ما يفعلون!

التَّعليم هُوَ الحَلّ...

 



أحمد عادل عيَّاد
مدينة نصر – القاهرة
السبت، 21 يناير 2012 م
الموافق 27 صَفَر 1433 هـ
الساعة 3.30 صباحًا

____________________
إشارات:
* ترجمتى. انظر «لوى ألتوسير»، ويكيبيديا، بالإنجليزية

** انظر «جلد أسود، قناع أبيض»، ويكيبيديا، بالإنجليزية