الجمعة، 20 يناير 2012

إنهم يخدمون الغرب

إنَّهُم يَخدِمونَ الغَرب

كنتُ أشرحُ بالأمس لإحدى الطالبات العزيزات الثائرات، هند عوض، لماذا لا يصدق الكثير من الناس أن هناك من يعمل من أجل مصلحة هذا الوطن دون أن ينتظر مقابل. بدأ الحوار حين رأيتها مستاءة جدًا وغير مصدقة بعد أن قرأت تغريدة لشاب يقول إنه يخجل من أن بلده بها أناسٌ مثل أحمد دومة وأسماء محفوظ ونوارة نجم، ووصفهم بأنهم «أشكال قذرة» (بالعامية). بحثتُ اليوم فى صفحته فوجدته شابًا تافهًا جدًا، لا يملك إلا أن يشتم هذا وذاك، ولا يعرف أصول الحوار أو التحليل المنطقى. قلت لهند إن الموضوع له أصول قديمة، وقد يتعجب القارئ مما سوف أكتبه، ولكنى أعتقد أن الموضوع يستحق الاهتمام.

باختصار شديد حاولت أن أقول لها إن بعض الناس ليس باستطاعتهم تصديق وجود أشخاص يعملون على خدمة غيرهم، ولا يدفعهم أحد لذلك، وذلك لأنهم أنفسهم لن يخدموا غيرهم دون مقابل. فالشخص الذى لا يقوم بالفعل بنفسه يصعب عليه تصديق وجود أناس غيره يقومون بالفعل. فمثلاً: كنتُ فى مدرستى آخذ راتبًا أعلى من كل زملائى بشكل ملحوظ، ولكننا قمنا بعمل احتجاجات بالمدرسة للمطالبة بالمساواة فى الأجور. نادتنى المديرة وسألتنى، أمام الطالبات، إذا كان مرتبى أعلى من زملائى، فقلت لها إنه أعلى بكثير، بل أكثر ممن هم أقدم مِنِّى بسنوات. سألتنى بما معناه «لماذا تشغل نفسك بغيرك إذن؟»، فقلت لزملائى إنها لا تصدق أننى أناضل من أجل زملائى، لا من أجل مصلحة شخصية، لأنها، نفسها، لن تفعل مثلما أفعل.

على أن الموضوع يتجاوز كل ذلك بكثير، وأرجعته، فى شرحى لهند، لنظريات استعمارية درستها على يد أساتذتى، الدكتورة رضوى عاشور والدكتورة عطاف البنا والدكتور أحمد جمال والدكتورة شيرين مظلوم وغيرهم. فقد غرس المُستَعمِر (بالكسر) فينا، على مدى قرون، سواء أثناء احتلال أو بعده (عن طريق الغزو الثقافى)، شعورًا بالدونية والانكسار، وعدم القدرة على تقرير المصير. فأضحَى الشعور العام أننا لا نملك الاختيار، وليس باستطاعتنا فعل أى شىء. نحن دومًا المفعول به، وليس الفاعل. قلتُ لها إن النظرية، ببساطة، هى: «أنتَ أحقر مِن أن تقرِّرَ مصيرَك بنفسك لأننا أعلَى مِنكَ فى المرتبة البشرية. أنتَ العبدُ ونحنُ دومًا الأسياد». ربما يبدو الكلام صادمًا، ولكنها حقيقة ما غرسه المُستَعمِر فى المُستَعمَر (بالفتح) على مَرِّ العصور. ولذلك تعجب الكثير من الناس حين وجد الكثير من الشباب يقررون مصيرهم بأنفسهم، دون أوامر من أحد.

ونحن إذ نتعلم تعليمًا غربيًا، فليس غريبًا علينا أن نستخدم هذا العلم ضد هيمنة الغرب نفسه علينا. وها نحن نرى شباب فلسطين يدوِّنونَ بإنجليزية تُطابِقُ إنجليزية البريطانيين والأمريكان أنفسهم، ويستخدمون هذا العلم فى نشر القضية الفلسطينية وتعريف العالم بجرائم الصهاينة. فالعلمُ إذن، وإن كان فى ومِن مدارسَ غربيةِ الفِكر، لا يُعتَبَر جريمةً يُعاقَبُ عليها الشباب. أقول هذا الكلام لأوضح سبب استخدامى لاثنين من فلاسفة الغرب، لُوِى ألتوسير وفرانز فانون، فى إثبات صحة وجهة نظرى.



يقول لوى ألتوسير إن الإنسان أو الشعب يمكن السيطرة عليه بوسيلتين أساسيتين، يسميهما «أجهزة الدولة القمعية» و«أجهزة الدولة الأيديولوجية». تتمثل أجهزة الدولة القمعية فى «القوانين والمحاكم والشرطة وأخيرًا الجيش»؛ وتتمثل أجهزة الدولة الأيديولوجية فى «العائلة، ووسائل الإعلام، والموسسات الدينية، والأهم (خصوصًا فى المجتمعات الرأسمالية) النظام التعليمى»*. هذه هى وسائل الدولة للتحكم فى شعوبها. وليس غريبًا أن نرى أنه كُلَّما زادت نسبة الجهل، كُلَّما سَهُلَت سيطرة الحُكَّام على الشعوب. فالجاهل يمكن إيهامُه بأى شىء، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة.

يعرف معظم الناس وسائل/أجهزة الدولة القمعية، التى تقمع أية محاولة للخروج عن الإطار أو الشرعية كما يقولون. ولكن لا يدرك الكثيرون خطورة وسائل/أجهزة الدولة الأيديولوجية. فتلك الوسائل وسائل خفية، ناعمة، «من تحت لتحت» كما نسميها. من المعروف أن الأيديولوجيات هى مجموعة الأفكار التى تُشكِّل الفرد والمجتمع وطريقة التفكير. إنها حربُ الأفكارِ إذن. فالتعليم يزرع أفكارًا قد يصعب نزعها من الشخص بسهولة، والإعلام يسيطر على العقول بسرعة لا يمكن قياسها. ولذلك، إن أراد الناس تمجيد الحاكِم، يضعونه فى كتبِ التاريخ التى يَدرسُها الطلاب وكأنه بطلٌ مغوارٌ لا مثيلَ له، وكذلك إنْ أراد الحاكِمُ تشويهَ مَن قبله، فإنه يَذكُرُ مساوئه فقط ولا يَذكُرُ تاريخَه المُشرِّف، وهكذا.

وفى رأيى، أقولُ إنَّ أجهزةَ الدولة الأيديولوجية أخطرُ بكثيرٍ مِن أجهزتها القمعية، فالقمعُ يُرَى بسهولةٍ ووضوحٍ للعيان (بغضِّ النظر عن بعض الناس الذين ابتلاهم الله بطبيعة غير بشرية، لا تتأثر بقتل النفس البشرية، وتحاول تبرير تلك الجرائم)؛ أما حرب الأفكار فلا يُدركها عَوامُ الناس، ويقعون فريسةً لها بكل بساطة. ولذلك، فإن تطهير الإعلام لا يقل أهمية عن تطهير وزارة الداخلية، بل يكاد يعادله فى الأهمية.

ولا عَجَبَ إذن من أن الناس تصدق ما يُقال لها علَى شاشات الإعلام المُوَجَّه: فنحن لنا ميراثٌ طويل مع تعليم تلقينى، يوجِّه فيه الأستاذُ الطالبَ إلى ما هو «صواب»، وغير ذلك يعتبر «خطأ» لا يمكن قبوله. لم نتدرَّب على تمرير المعلومة على «فلتر» لنرى أنقبل أم نرفض؛ لم نتعوَّد على التحليل والنقد، للأسف.



فى كتابه «جلد أسود، قناع أبيض»**، يقدم فرانز فانون تحليلاً نفسيًا لشعور الشعوب السوداء إزاء الشعوب البيضاء، فيقول ما معناه إن المُستَعمِر الأبيض غرس عقدة الدونية والخنوع فى المُستَعمَر الأسود، حتى جعلَ الأسودَ يتمنى أنْ يكونَ أبيضَ لكى يكونَ على مستوى إنسانيةِ الأبيض. ولذلك، فقد يتصرَّف الأسودُ على أنه أبيض، لمجرد أن يشعرَ أنه إنسانٌ على مُستوى بقيةِ البشر. فيستخدمُ الأسودُ لغة «السيِّد» الأبيض فى كتاباته، ويلبس ملابس السيد الأبيض، ويحاول قطع كل علاقة له بتراثه الأصلى، لأنه يشعر فى قرارة نفسه أن الأبيض/الغربى هو النموذج الذى ينبغى أن يكون عليه البشر.

لقد وقعنا ضحايا غزو ثقافى زرع فينا شعورًا أن الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، هى صاحبة السيادة والقرار فى كل شىء. فمصرُ لن تتغير طالما الولايات المتحدة لا تُريد تغييرها، وفلسطينُ لن تتحرَّر طالما الولايات المتحدة لا تُريد تحريرها، إلى آخر هذا الكلام. وهذا، وإن كان فيه جانبٌ كبيرٌ مِنَ الصِّحة، إلا أنه لا يجب أبدًا أن يجعلنا نصدّق أننا، نحنُ الشبابَ الذى قرر أن يثور، قد تلقينا أوامرَ من أمريكا ولا من غيرها. فالمتابع للتصريحات الأمريكية فى بداية الثورة وفى وسطها وآخرها سيجد ارتباكًا واضحًا فى ردود الأفعال. وقد قال لى دكتور تميم البرغوثى يومًا إنه كان فى أمريكا خلال الأيام الأولى للثورة المصرية، وقد رأى الإعلام الأمريكى يحاول أن يُقنعَ العالَمَ أنهم هُم مَن علّمونا الحرية والديموقراطية، بل وهم من صنعوا الثورة!

وعليه، فإن كل من يردد ويقول إن الثوَّارَ مُمَوَّلين مِنَ الخارجِ أو عُملاءَ للغرب، أو أنهم تلقوا أوامرَ بالثورةِ مِنَ الولايات المتحدة وغيرها، إنما يَخدِمُونَ الغَربَ بذلك، فهُم يرَوِّجونَ لأفكارهم الاستعمارية المُثَبِّطَة للعزائم، وينسبون الفضلَ لمن لا يستحقونه، بل وينفون عن شبابِ مصرَ الباسلِ أيَّة قُدرةٍ على اتخاذِ القرارِ وتحديد المصير واختيار ما يريدون. ألا ساء ما يفعلون!

التَّعليم هُوَ الحَلّ...

 



أحمد عادل عيَّاد
مدينة نصر – القاهرة
السبت، 21 يناير 2012 م
الموافق 27 صَفَر 1433 هـ
الساعة 3.30 صباحًا

____________________
إشارات:
* ترجمتى. انظر «لوى ألتوسير»، ويكيبيديا، بالإنجليزية

** انظر «جلد أسود، قناع أبيض»، ويكيبيديا، بالإنجليزية